صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، مايو 03، 2013

تراويح


انتهينا من الإفطار سريعاً، ثم جلسنا بالشرفة نشرب الشاي بالنعناع. هي مناسبة بدءت منذ خمس سنين، لا أستطيع الفرار منها، لقرب صديقي عزّت من قلبي. الشرفة صغيرة ، بالكاد تتسع إلى شخصين، وفي وجودي، تتسع إلى ثلاثة أشخاص، أنا وعزّت وزوجته. هي تعدّ طبق البامية الذي أحبه ، كما يقول الكتاب، وأنا لا أستطيع مقاومة تلك الغواية، كما أنني بالكاد أجيد عمل كوب شاي، مع بعض الأعراض الجانبية؛ كإحراق البّراد، استعمال الملح سهواً بديلاً عن السكّر ، نسيان أنه ليس بالبيت شاي أصلاً بعد سكب الماء المغلّي بالكوب.

الشرفة تطل على مسجد "عباد الرحمن" ، هه ، زمن ، من قال أن الحال يتغير؟. قبل زيارتي لتلك الشرفة أوّل مرة بعشرين سنة ، كنت هنا ، أصلّي مع أبي التراويح ، وكان أبي يؤّم المصلّين للمرة الأولى والأخيرة.
كانا صفّين على الأكثر في العشر الأوَل، ثم سبعة أشخاص منهم أنا وأبي وعمّ سعد المؤذن بقية الشهر ، وكنت كلما وقفت خلف أبي ، أشار عمّ سعد إليّ ، يدفع جسدي الصغير بكلتا يديه برفقٍ اختلط مع ابتسامة جميلة وتبريقة مخيفة لأتوّجه إلى الخلف. يقول عمّ سعد أن الصغار يجب أن يتركوا للكبار الفرصة كي يتقدموا الصفوف. الكبار كانوا يأتون متأخرين يا عمّ سعد، لكنني كنت أخشاه، وأخشى أن يؤنبني أبي على ذلك.

أبي ليس من ذوي الصوت الجميل، لكنه يقرء بهدوءٍ ووقار يحمل في كينونته خشوعاً بسيطاً مميزاً، يجعلني أركّز في الصلاة. لم يكن هذا الخشوع هو الذي حمل عمّ سعد على تقديم أبي إلى الإمامة، لكنه لاحظ مظهره، وانتهز فرصة دخول أبي المرحاض، فأشار إليّ، وسألني لمّا اقتربت "هو بابا بيشتغل إيه يا حبيبي؟"، قلت: "دكتور أسنان".

ما أذكره على وجه التحديد كيف كان الناس يحتفون بي، ويقبل الواحد منهم بين الركعتين قائلاً: "ربنا يفتح عليك يابني"، ثم يرمق عمّ سعد بنظرة غاضبة، وينصرف. أمّي كانت تنهرني بشدّة لما أفعله. وماذا فعلت؟، كان أبي يخطيء في القراءة، وكنت قد بدأت وقتها دروس التجويد على يدّ عزّت، "الدكتور اللي من الأزهر"، هكذا كان لقبه. لهذا دقّقت في المدّ، الغنّة، علامات الكسر والرفع والنصب، فلا يختلط المعنى ويخرج عن مراد الله. لكنني كنت أشعر بلذة خفية كلما احتفى بي أحد، ونظر إليّ في إعجاب.

الأمر تحوّل إلى معركة، كنت أركّز لا في الصلاة، بل في الخطأ الذي سيقع فيه أبي، حتى أرفع صوتي بالصواب، فيعيد أبي القراءة، عمّ سعد كان يشير إليّ لأقف بجواره، ويربت على كتفي، بينما تنهرني أمي بالليل، وتقول: "عيب يا أحمد، أبوك بيتضايق، كدة هايقولوا هوّ اللي طفّش الناس من الجامع"، لم أقتنع بكلام أمّي. الناس كانوا لا يطيقون الصلاة الطويلة ، لهذا كانوا يبحثون عن مساجد أو زوايا أخرى تنهي التراويح مبكراً. لم أتبادل مع أبي الحديث في هذا الأمر. سألته ذات ليلة "هي الناس مش بتيجي التراويح ليه يا بابا"، ينظر إليّ ويبتسم، ولا يتكلّم، ويكمل الطريق إلى المسجد بخطىً تراعِ خطاي الصغيرة.

في تلك الليلة، انتظر أبي لحياءه المعتاد أن يشير إليه عمّ سعد، لكنّ الأخير نظر إلى يساره، "اتفضّل يا حاج توفيق". انتهت الصلاة أسرع من المعتاد، وأقبل المصّلون إلى المسجد في الليالي التي تلتها، الحاج توفيق كان سيء القراءة، سيء الصوت، سيء الرائحة، يقرأ الليلة كلّها بسورة البلد وقصار السور، فقدّت التركيز، ولم أقدر على تصويبه لكثرة ما أصاب الآيات من خطأ حتى في أبسط قواعد اللغة، بعد ليلتين، عدنا إلى المنزل، وفي الطريق نظرت إلى أبي الذي أسرع في سيره، لم أتبين ملامح وجهه، وأنا أحاول اللحاق به بصعوبة، نظرت إلى الخلف، كانت يافطة "عباد الرحمن" ، تصغر شيئاً، فشيئاً.




--

كتبها
محمد عمر
مايو - 2013   

ShareThis