صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، يناير 05، 2014

أبو طويلة


اليوم المائتان وأربعة وعشرون، بلغت من الطول أربعة وعشرين ألف كيلو متراً، أي بارتفاع أربعة من جبال الهيمالايا ..ـ

أبي العزيز، لن أسامحك أبداً، لن أغفر لك كونك بعتني للأمريكان مقابل جرين كارد ومليار دولار، صحيح أنهم أعطوني الجرين كارد أيضاً، ويعملون الآن على بناء فيلا كبيرة جداً من أجلي، ووضعوا في حسابي ضعفي هذا الرقم، وعلى الرغم من أنهم يعتنون بي الآن جيداً، بدايةً من الأساسيات: الأكل، الشرب، الذهاب إلى الحمام –بما يتناسب مع طولي- ونهايةً بإمكانية مشاهدة أي قناة على كوكب الأرض كما يحلو لي (قاموا بتصميم قناتين تعمل من أجلي خصيصاً، واحدة تذيع أفضل مباريات كرة القدم على مر التاريخ، والأخرى تبث ما يُعرض في السينمات قبل نزولها لدور العرض)، وجهاز خاص للتواصل مع الآخرين من خلال الإنترنت؛ حيث أقضي أغلب الوقت على صفحتي على فايسبوك، والتي أصبحت بفعل ما حدث لي من أشهر الصفحات على الإطلاق، إلا أنني أشعر بالملل، الوحدة، الرغبة في ترك هذا كله، لأنني، في نهاية الأمر، محشور داخل كبسولة حقيرة ضيقة، ومجموعة من غريبي الأطوار يقومون بأبحاثهم، يعتقدون أنني التطوّر الجديد للبشرية، بينما يعتقد بعضهم أنها حالة طبية نادرة، ستنتهي إلى اللاشيء.ـ

***

اليوم المائة وستة وثمانون، بلغت من الطول ستمائة قدم، الأهرامات بالنسبة لي كقطع من الليغو ..ـ

أبي العزيز، أرجو أن تسامحني على ما حدث، كنت أعتقد أن قراري هذا هو الحل الأنسب، لكنني لم أعرف أنه سينكشف أمري بهذه السرعة. البلد في حالة ذعر يا أبي، لا أحد –حتى أنا- يستوعب ما أصبحت عليه وما أنا مقبل عليه، أمي سريعة التأثر يا أبي، قل لها ألا تصدق ما يقولونه على التلفاز، السلطة تريد من الجميع أن يكرهني بحجة أنني أصبحت تهديداً للأمن القومي، وأنت تعرف أنني لا أستطيع تهديد العيال في الشارع. قل لها ألا تصدق علماء الدين، صحيح أنني لست منتظماً في الصلاة، لكن لم أصل لدرجة المسيخ الدجال كما أشاعوا !. أكتب لك هذه الكلمات وأنا أرى قطيعاً كبير من العربات المصفحة والدبابات والطائرات الهليكوبتر يتقدم نحوي، حتماً سيضربونني بكل ما يحملون من ذخيرة، وأنا لا أعلم، هل يتضمن طولي هذا قوةً خارقة تصمد أمام الرصاص والذخيرة الحيّة كفيلم الرجل الأخضر، أم سأُقتَل من أول رصاصة مسدس عيار تسعة، أود أن أسألهم ماذا سيفعلون بي بعد التخلص مني، هل حقاً سيستطيعون دفن جثة بهذا الحجم؟. فقط أود أن أقول في تلك اللحظات أنني أحبكما جداً، وأنني مشتاق لرؤيتكما جداً، وأن ما حدث لي، ليس سببه العلاقة المضطربة بيني وبينك. تحياتي

***

اليوم الرابع والثمانون، بلغت من الطول سبعة أمتار ونصف ..ـ
أبي العزيز، إذا كنت تقرأ هذه الكلمات، فأنا الآن أكون قد هربت من البيت. أعلم أنك وأمي قد بذلتما مجهوداً خرافياً طيلة الشهور الماضية في الدوخة وراء الدكاترة والشيوخ والدجالين، لكنني لم أعد أحتمل كلام الناس، ونظرات أمي المشفقة، ورغبتك في شنقي بخرطوم الغسّالة، خسرت وظيفتي، الفتاة التي أحلم بالزواج منها. العيال في الشارع يطلقون عليّ "أبو طويلة". لم أعد أستطع ركوب المواصلات، النوم على سريري، استخدام الحمام بسهولة، الأكل. البيت لم يعد يتحمّل طولي الآخذ في الازدياد بتسارعٍ لا يتوّقف، علي الخروج من القاهرة قبل حدوث الكارثة. أسمع ما يعانيه إخوتي بسببي، وبكاء أمي طيلة الليل، أخشى أن تدخل في غيبوبة، أو يصيبها هبوط حاد في الدورة الدموية. لا تبحث عني، قل للجميع أنني اختفيت فجأة، لا تخبر أحد عن ذلك الخطاب، سوف أراسلك عندما أجد حلاً لحالتي. تحياتي

***

اليوم الأول .. طولي زاد عشرين سنتي-متراً دفعةً واحدة!ـ

قالت أمي: [ياحبيبي طبيعي ما حدث، عائلة أبوك معروفة بجينات الطول، كنت عايز تطول ازاي يعني؟]، أبي اكتفى على العشاء بقوله: [إنت طولت إمتى يلا؟]. أشعر أن شيئاً ما غريباً يحدث لي، بحثت على الإنترنت، سألت بعد أصدقائي، لكنني لم أجد شيئاً يتعلّق بمرض أو تعويذة، الجميع متناقض بشكل ملحوظ، يستغرب ما حدث لي، وبعد القليل من الوقت يرى أنه شيء طبيعي

***

اليوم المائتان وإثنان وخمسون ..ـ

الأمر خرج عن سيطرة الأمريكان، صرخت كثيراً اليوم، لم أتألم هكذا من قبل.ـ

الغرفة مظلمة، الجو بارد، وكل شيء هنا كبير جداً. انتهت الزيارات، بعضهم جاء بالورود، بعضهم تطلّع إلي ببله، وبعضهم حملني بلطف، مع كلمات على نحو [جميل شبه أبوه] ، [ما شاء الله، ايه الحلاوة ديه]، [هاتسموه ايه؟]، بين الجميع اثنان، فهمت من سياق الحديث أنهما أبي وأمي.ـ  




محمد عمر
ديسمبر 2013

فادية


محاولة للنوم، لم يغلبها البرد، ولا الهواجس التي تأتي لأرملة في الرابعة والخمسين تجلس وحدها في شقة إيجار قديم. بل صوت الهاتف المزعج، مضطرة لسماعه، لأنه أولاً قلّما ما يرن، ولأنها ثانياً الرنّة الوحيدة ذات الصوت العالي حيث أستطيع سماعه –قلما- يرّن. نسيته في الصالة، ككل ليلة. أي عاقل سيقول أنني لن أغامر بمغادرة اللحاف، لكنها "أنيسة"، أختي التي تصغرني بعام، أعلم أنها لن تكف عن إعادة الإتصال إن شاء الله لبُكرة الصبح، وكما تقول الحكمة: في البداية يتجاهلونك، بلا بلا بلا ، وفي النهاية تنتصر ..ـ

ـ" ألو .. أيوة يا أنيسة .. عاملة جمعية .. اخلصي عايزة ايه ف البرد ده؟ .. كنت بوّلع نار في الصالة .. كنت بنام طبعاً .. لا يا ستي .. ما خلاص قمت .. ارغي ارغي .. سامعاكي .."ـ

رغي رغي ، ساعة إلا ثلث، قررت تدفئة نفسي أثناء ذلك بالتمشية في أرجاء الشقة، بالصدفة وجدت باب الثلاجة مفتوحاً فأغلقته، باب الحمام بالمرة، يمرّر هواء بارد من المنوَر. حاولت إغلاق فمها بالمرة لكنني لم أفلح، طيّرت النوم من عيني بسبب حكاية اللحاف اللعينة ..ـ

"وانت ايه اللي يخليكي تروحي بيه لأمك؟"

ـ" أهو اللي حصل، قالتلي حلو اللحاف ده يا أنيسة، ورهولي كدة، والنبي حلو، وبيدفي، ماتدهولي يا بنت ده أمك متبهدلة في البرد، السنة ديه شديد أوي، ما تقولي حاجة يا حسنية، واللي تتشك ف بطنها قالت: مايغلاش عليكي يا أما، وقعدت تضحك"ـ

"وماخدتيش تمنه؟"

ـ"تمن مين يا تمن، بدل ما تطلع خمسين جينيه م الفلوس اللي كانزاهم على قلبها، إديتني البطانية القديمة اللي عندها جوا، وأختك تقولها بس البطانية أتقل وأغلى ياما، تغيظني أكتر وتقولها: يلا مش مشكلة، مش هاخد منك فرق"ـ

فطست من الضحك، قلت لها ربنا يعوّض عليكي، ويجعلها في ميزان حسناتك، واشترِ لحاف آخر. انتهت المكالمة، وأي محاولة للنوم الآن بدون إبريق من الكاموميل ستبوء حتماً بفشل محقق .. المهم أني عرفت إن أنيسة لن تشتري لحاف آخر قبل الشتاء القادم، بينما تنعم أمي في دفء جاء إليها بدون تخطيط، رزق، كالمال، والنوم.ـ

"خير يا أمّا ! .. بتكلميني ليه الساعة ديه؟ .. حصل حاجة كفا الله الشر؟ .. أنيسة! .. مالها؟ ..ـ "

ـ"أبداً، أختك جاتلي النهاردة، وكانت شاريه لحاف، ولما بصيت عليه وقولتلها حلو، ينفع ف البرد اللي احنا فيه، قالتلي والله مانتي مرجّعاه، قولتلها لا يا بنتي، انا عندي بطانية أتقل منها، وبعدين اللحاف ده شكله غالي، حسنية أختك قالتلي مايغلاش عليكي يا أما، وبعدين أنيسة هاتاخد البطانية ومش هاتاخد منك فرق، تفتكري تكون زعلت ؟"ـ

ـ"لا ياما، هاتزعل ليه يعني؟، ده حتة لحاف بخمسين جنيه .. ايه اللي عرفت منين؟ .. ااه ، ما هي اللحفة اللي نازلة ف السوق دلوقتي كلها ف الحدود ديه يعني .. أنيسة أكتر واحدة ف بناتك بتحبك، وأكيد فرحانة إنك خدتيه يعني .. ااه .. أكيد .. وأحمد .. بيشتغل وعلى قلبه قد كدة .. وارث البخل عن أمه .. بس مش هايستخسر لحاف ف عياله يعني .. أهو احنا مش عايزين غير الدعوتين دول ياما .. ويرضى عنك .. وإنتي من أهله".ـ


محمد عمر
ديسمبر 2013

سيدي البطرني

تحب أن تراني أزورها وأسلم عليها، كما تحب أن يزروها أبنائها وبناتها كل أسبوع وألا ينقطع عنها أحد، رغم ذلك، تحب ابنها محمد أكثر من أي شيء في الدنيا، ابنها محمد لا يزورها أبداً، فقط يتصل بها في الشهر مرة أو مرتين ويعدها بأن يأتي، لكنه لا يأتي.ـ

-          " الله، ايه ريحة البخور الحلوة ديه يا أمي؟"
-          " ديه بركة سيدي البطرني يابني"

أميل بوجهي ناحية خطيبتي وأسألها (مين سيدي البطرني ده؟)، فتزغر لي بعينها كي لا أسترسل في الكلام، وأنهي هذه الفقرة سريعاً، فقرة الحاجة حسينة، أم الحاجة فاطمة، حماتي. كل أسبوع، ومع زيارتي لخطيبتي، يذهب كلانا لها مع حماتي، نجلس خمس دقائق على الأكثر كي أسلم عليها، ثم نتركها وحماتي ونتمشى قليلاً إلى صخرة كبيرة على شاطيء البحر بين مجموعة من البنايات القديمة. البحر مظلم موحش، لكن الشارع بسيارات النقل الكبيرة التي تمر به، الإنارة البرتقالية التي تأتي من عمدان نور عمرها من عمر أجدادي، والمحلات والورش التي يجلس أصحابها أمامها في كراسي بلاستيك يتناولون الشيشة أو سيرة الناس والبلد تضيف جو ونس فوق الونس الذي يشعر به كلانا مع الآخر في تلك اللحظات الجميلة، التي نترك فيها ظهرنا للعالم كله، ونحدّق في الفراغ، ننظر إلى بعضنا البعض، نبتسم، ثم نعود ونطيل في التحديق، والصمت.ـ

-          "مين سيدي البطرني ده؟"
-          "ده ولي من أولياء الله، كان ليه مقام ف بحري، أيام ماكانت تيتة عايشة هناك"
-          "ولي ايه بس، ومقام ايه، انتي بتصدقي ف الحاجات ديه؟"
-          "لا طبعاً، بس أقولك، ماما حكتلي عن إن المقام ده حتة أرض بين العمارات، أرض واسعة يعني، وعليها باب .."
-          "مش جامع يعني و .."
-          " بطل بتقاطعني .. أكمل الأول .. الأرض الواسعة ديه كان في واحد عايز يهد الباب اللي عليها ده فجاب جرار والناس اتلمت، أم ايه؟ .. ايده اتشلت"
-          "لا والله!"
-          "اه والله، زي ما بقولك كدة، ايده اتشلت، وأهله أصلاً أغنيا يعني، سفروه برة عشان يتعالج ولا أي نتيجة"
-          "امم، طيب م ممكن يكون لأي سبب تاني يعني"
-          "يعني السبب مش لاقي مكان ولا وقت غير عند مقام الراجل! .. المهم .. الناس بقى هللت .. وعملوه من يومها مقام"
-          "وايه حكاية البخور ديه؟"
-          "معرفش، بس تيتة عندها واحة صاحبتها على طول تتصل بيها، وتحكيلها انها شافتها ف المنام وهي قاعدة مع سيدي البطرني، فهي بتحبه وبتتبارك بيه"
-          "وصاحبتها ديه ايه؟"
-          "عادي، واحدة عادية، أبوها كان إمام جامع، بس هي زينا يعني"


الحاجة حسينة –ما شاء الله- ربنا مبارك لها في عمرها، زوجها مات، وإثنين من أولادها ماتوا، وأنا تزوّجت من حفيدتها، ويبدو بهذه الطريقة أنها سترى أولاد أحفادها، وهي صحتها أجمد منّا جميعاً، حتى الحاج أحمد صبيح المؤذن، والذي يقاربها في العمر، مات هو الآخر، الله يرحمه ويحسن إليه، كان كل جمعة يبخّر المسجد الذي أصلّي فيه قبل أن أذهب إلى خطيبتي من الصباح الباكر ويجعل رائحته ترّد الروح، وبعد الصلاة يبخّر شقته، كان مركّب شفّاط كبير في مطبخ الشقة؛ فكان يأخذ البخور وينقله إلى الشقة الملاصقة له. ألف رحمة ونور عليه.ـ



كتبها:ـ
محمد عمر
أكتوبر - 2013

ShareThis