صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، أبريل 28، 2013

مقابلة شخصية (الجزء الثاني والأخير)ـ

الجزء الأوّل:
https://whitea4.blogspot.com/b/post-preview?token=649TUT4BAAA.fZREqGUsQcuDwuz6v2-QmA.ynwt5hhQOlAQGX1p2u-FBw&postId=8291760610938001251&type=POST


بضعة سنتيمترات ، كان الإصطدام وشيكاً ، وكل ما خططت له كان سيضيع إلى الأبد ، لولا خطوة  واحدة ، فقط ، للخلف ، أنقذت الموقف من نتيجة مروّعة. بادلتها اعتذارا بارداً كمدينة لا تعبأ بساكنيها. أشارت إليّ ، بأنامل عارية تقف وسط شتاء سكندريّ كثيف ، بالانتظار قليلاً.
اقتربتُ من الباب بخطو تمساح أسترالي، الزخارف على الجزء الزجاجي منه كثيفة ، مع النظّارة ، تُشكّل عائقاً بصرياً في اكتشاف العالم الآخر. انفتح الباب بقوة لا تتناسب مع حجمها ، فتسمّرَت من اقترابي كلّ هذا الحدّ. كانت أقصر مني بشِبْر ، فلم تتبيّن شفتي السفلية التي هزتها رياحُ الشمال ، قبل أن تضمها العليا، تربت عليها بحنوّ ، تطمئنها ، تحثها على استكمال النيّة. مالت الفتاة على الباب تدفعه بظهرها وباطن يدها اليمنى مع خطوة للخلف ، وخطوتين ، ثم أشارت باليسرى مع انحناءة خفيفة برأسها للأمام:
-"اتفضّل يا فندم".
-"حدّ يتفضل في بيته برضه ؟ ".

**

المكتب في اتساعه، طوله أكبر من عرضه. على الحائط ، جهة اليسار ، ستُ لوحات تراصت رأسياً ، في صفيّن متباعدين. لكل صفٍ ثلاث لوحات ، وبينهما لوحتان أكبر ، تسكن كل منهما داخل تجويف مستطيل ، واحدةٌ أعلى من الأخرى. جميع اللوحات تحمل نفس الرسمة ؛ مربّعات سوداء اللون ، أطرها رمادية نحيفة ، وآخذة في الانقسام من داخلها إلى المالانهاية. جدار الحائط رماديّ باهت ، أَمْيَلُ إلى الأبيض. تتقاطع خطوط خلفيته على هيئة مربعات كبيرة ، وكلما تقاطع خطّان وضعت نقطة محفورة من أعلاه ، وأخرى من أسفله ، مكوّنة عل امتداد الحائط خطَّيْن متوازيين من النقاط المتراصة أعلى وأسفل الخطوط التي بها رسمت المربعات الكبيرة. الأرضية تحمل نفس تطريز الحائط ، غير أنها لا تحمل نقاط محفورة. استقر فوقها وعلى مقربة من الباب ، مقعدان فسيحان؛ قاعدتهما من زجاج على هيئة حوض سمك. يستقر في أعلاه تكوينٌ منبسط من الجلد المضغوط. أمامهما منضدة زجاجية بعرض المقعدين ، يليها كرسيّ مكتب يقف على عامود معدني يغلّف ثلثه الأوسط تبطينٌ من جلد سميك ، لونه كلون المقعدين. بأسفل العامود اتصال مع الأرجل المعدنية الأربعة، هي رفيعة، تأخذ شكل كفّ مفرودة الأنامل، تستقر فوق أربع عجلات. يطلّ الكرسيّ على مكتب خشبي عريض، تعلوه مجموعة من الملفات والأوراق بطريقة منمقة تؤكّد نمط الرجل الأرستقراطي ، والذي انشغل بجهاز الحاسوب الذي أمامه ، بهدوء مريب. طفى هيكلي النحيف فوق الكرسيّ، وتبادلنا نظرتين خاطفتين ، قبل أن يلتقط نسخة سيرتي الذاتية التي أمامه ، ويتصفحها.

**

-         "إزيك يااه .. صابر"
-         "أنا مش صابر"
-         "أومال حضرتك مين؟"
-         "أنا فريد"
-         "كل اللي بقابلهم بيقولوا كدة"
-         "وامتى تقول إني الشخص المناسب؟"
-         "في حاجات ممكن تبقى مناسبة لحاجات تانية .. بس الحاجات التانية مابتبقاش مناسبة ليها"
-         "والحلّ؟"
-         "انت ماتعرفش الحل؟"
-         "أومال أنا جاي هنا ليه؟".
انكسر زجاج الباب المزخرف على إثر ارتطام كرسيّ المكتب به ، كنت قد ركلته ووقفت أمامه فاتحاً طرفي البذلة، معلناً عن رطلين من المتفجرات احتلت صدري وبطني بالكامل، أشحت بيدي اليمنى لأعلى ممسكاً بزرّ التفجير.

-         "تختار ايه؟"
-         "وايه الخيارات المتاحة"
-         "يا أعيش ، يا ماشتغلش"
-         "ولما تمّوتني، هاتكون حليتها؟"
-         "على الأقل هاريّح الناس اللي برة من أمثالكم"
-         "الناس ديه مكانها برة ، عشان إنت جوّا"
أنهى عبارته الأخيرة، ثم قام من كرسيه، فارتفع المكتب العريض ، المقعدين. اللوحات الستّ تسبح في الفراغ ، الأوراق سبقت الجميع إلى السقف ، طرقٌ قادم اختلج بأصوات بشرية أتت من خارج الباب ، إيقاعه في تسارع ، وعلّو. أنا هنا، وحدي، لماذا أفترش الأرض بهذا الشكل ؟ ، بجواري زجاجة الرائحة ، غطاؤها مُلقى على امتداد بجوار الباب. الباب حديديّ ، زجاجه على هيئة مستطيل تملؤه وحدات مستطيلة أصغر ، متساوية. زعيقٌ اقترب من أذني، أنفاسه حارة ، رائحة العرق العفنة تشجّع على اتضاح الصورة. الوجه الذي يقابلني أكبر من المعتاد ، لا أتبين الملامح المختلطة ، يهزني بقوة ، يلطمني على خدي. جلدي رطب ، أغمض عيني بقوّة ، أغيب لسنة أو سنتين ، ثم أفتحهما على اتساع ، أخيراً .. مكونات الصورة تستقر في أماكنها المنطقية.

**

-         "المهم إنك بخير ، خلّص العصير ، والشركة في العمارة اللي جنبنا"
-         "شكراً على اللي عملته معايا ، أنا خلاص مابقتش عايز أروح هناك"
-         "طب هاتروح فين يا باشمهندس؟"
-         "مش لازم أعرف دلوقتي، بس هاعرف بعدين"
  


تمت.


كتبها: محمد عمر – إبريل 2013

الجمعة، أبريل 19، 2013

مقابلة شخصية (الجزء الأوّل)ـ

ثمانية عشر دوراً، العمارة أربعة وعشرون، وليست كما ظننت، وصعدت، ومعي عامل التوصيل (الديليفري)، تركني في منتصف المسافة، مما أعطى لي فرصة، انفراد، كي أضع بعضاً من العطر، لأتخلّص من خليّة عَرَق، تكونّت سراً أسفل إبطيّ. اتساع أخضر من الذهول، أمام انفتاح باب المصعد. لا أبواب زجاجية، لا أضواء بيضاء مبهرة، لا مشّاية حمراء مفروشة بالطول، لا وجود لعلامة مميّزة تحتلّ أبواب الدور، ربما الدور الأعلى؟، لا، إنه السطح، فكّرت في طرق باب شقة على يمين المصعد، ثم استشعرت سخف الموقف، تخيّلت رجلاً بفانلة حمّلات، كان قد أخذ أجازة من العمل للانفراد بزوجته، والأولاد في المدرسة، يرمقني بنظرة احتقار، أو طالب خمسة ابتدائي، سمين، سخيف، أطال النوم، فغاب عن دوامه اليومي، يلطم وجهي بالباب، على أقل تقدير، سيسّب لأميّ الدين.

نَزَلْت. صوت المصعد أنبأ بسقوط مُحَقّق، هل ينتهي بي الحال في مصعد ليس به مرآة زجاج واحدة توّحد الله، صوتٌ قادم من اللاوجود –لزوم التديّن- "سبحان الذي سخّر لنا هذا .. "، لماذا لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن صوتِ آخر غير هذا، "إن الله جميل يحبّ الجمال"، وليس عِرسة مخنوقة تعاني مغصاً قولونياً فشلت المسكّنات في إلجامه. نهاية بائسة لشاب ثلاثيني لا يجد وظيفة.

وصلت. الدور الأرضي، جثة هامدة غادرت تابوتاً متحركاً للتوّ، انتظرت البوّاب حتى فرغ من ركعة صلاة الظهر الأخيرة، جلسة التشهّد طالت، يحّك رأسه، يغرس إصبعه في أذنه ويحفر، يسرح في المال والعيال، كيف سيتصرّف مع توبيخ صاحب العمارة اليومي، يتثاءب وكأنه سيبتلع الكون، سلّم، أطوى السجّادة.

-         "أؤمر يا بيه"
-         "شركة آي تِك"
-         "المدخل الجاي يا باشمهندس، عمارة 24 ب، هنا 24 أ، الدور التمنتاشر"، إضافة لزوم الجدعنة: "الدور كله بتاعهم".

ليتني لم أصل!.

لمبات بيضاء تراصت على جانبيّ الممر، في منتصف الأرضية مشّائة، حمراء، مفروشة بالطول، انتهت عند يافطة "أكريليك" عليها رمز الشركة، وأسفله شعارهم، "نبدع، نتطّور، نتفّوق". فتاة عشرينية العمر، بالإستقبال، أشارت عليّ بالإنتظار قليلاً. "قهوي زيادة لو سمحت"، هكذا قالوا لي، لا تطلب عصائر، أو نسكافيه، إمّا الشاي أو القهوة، والقهوة تظهرك أكثر احترافاً. تتفحصني النظرات التي ملأت الصالة، بذلات، وجرافاتات، أغلبها أسود اللون، وبعضها رمادّي، القمصان كلها بيضاء، يحملون سيرتهم الذاتية -كما أحمل- في غلاف، بلاستيك، شفّاف، خفيف. أحتسي القهوة، وأمشطهم بعينيّ سريعاً، ثم أراقب ساعة الحائط، لا يجلس أغلب المتقدّمين بالداخل أكثر من عشر دقائق، يبدو أن المتقدّم الأخير مختلف، مرّت عشرين دقيقة ولم يخرج بعد، أحاول السيطرة على مفاصلي التي لم تمّل من كثرة المقابلات، مازال لديها أملٌ في أن أسمع جملة أخرى غير "شكراً لحضورك يا باشمهندس، فرصة سعيدة جداً، لو حضرتك اتقبلت معانا هانبلّغك في خلال أسبوعين".

جاء دوري، متأخراً، بساعة، قالوا لي أيضاً؛ أنهم في المقابلات، يقيسون مدى تحمّلي بأن يتأخروا عن الميعاد المحدّد بساعة أو ساعتين. أذكر أنني مرة، كنت وحدي، متقدماً، ومع هذا، تركوني بالخارج لثلاث ساعات، حتى غفوت، وبدأت أريّل. أيقظني مدير الموارد البشرية، الذي من المفترض أن يجري معي المقابلة، بدوت سخيفاً جداً، لكنّه فاجأني، مخففاً من وطأ الحرج، "تعالى نصّلي المغرب، وبعديها نبتدي"، لم أكن قد صلّيت الظهر والعصر أصلاً، قلت لا يهمّ، سأصليهما لاحقاً. في المقابلة، اهتم بشاشة الكمبيوتر، كأنه وحده بالغرفة، عقد حاجبيه، تحّركت أصابعه بشكل سريع، ضرب على الزر بقوة، كأنه يلقي بقنبلة، غالباًـ في وجه مستقبل الرسالة (الإيميل)، ثم سألني –وهو يتطلّع للشاشة-:
-         "قولي بقى يا باشمهندس إيه هي نقطة ضعفك؟"
استشعرت جبلاً من السخف استقر فوق صدري، مللت تلك الأكلاشيهات، وبدلاً من أجيب بواحدة من الأكلاشيهات التي حفظتها "مش بشتغل كويس على الماكينتوش" ، "الشغل بيأثر على علاقاتي الإجتماعية"، قلت له:
-         " نقطة ضعف مالهاش علاقة بالشغل"
-         "إيه هي؟"
-         "بحب أنام"
-         فالتفت "أيه؟؟؟"
-         مردّداً ببطأ سينمائي، مططت فيه مدّ الألف: "بحب أنام".


تطلّع إلّي في سكون، ذهول، ثم اقتضاب.ـ

-         "طيب ، عامةً لو حضرتك معانا -إن شاء الله- هانكلمك في خلال أسبوعين".
بعدها، عرفت من صديق لي، يعمل بالشركة، أن الوظيفة أصلاً كانت قد تمّ شغرها قبل تقدّمي، لابن صديق ذلك المدير، لكن موظف الموارد البشرية المغّفل، لم يكن يعلم، استمر في إرسال الإعلانات الإلكترونية، فاصطادني. من المؤّكد أنه كان يرسل له رسالة توبيخ، ربما طرد، أثناء جلوسي معه.

(يُتبَع)



كتبها:

محمد عمر
19 إبريل 2013

الاثنين، أبريل 15، 2013

قصة قصيرة


المكان؛ طاولة، على هيئة مستطيل، في مواجهة قائم حديدي يفصل بين بورصتين. تقف على أربع أقدام من الخشب العجوز، قصيرة إلى الحد الذي أمرر، بصعوبة، ركبتيّ من خلالها. رأسها، يغطّيه مشمّع بلاستيك، سميك، مطبوع عليه علامة ليبتون، وسطحها أملس، فلا يسمح للماوس الوايرلس الخاص بي أن يتحرّك بحرّية. تبّقى لي منها مساحة ضئيلة لقلم، لا أرسم به سوى دوائر متقاطعة، تعكّر صفو ما لدي من ورق أبيض، وفلاشة نت مضربة عن العمل، وهاتف نقّال لا يرغب في التواصل مع الناس، كثيراً.


الزمان؛ الحادية عشر والنصف ظهراً. باقي من الوقت المُباح ساعة، ولا أدري، رغم رغبتي الملّحة، عن أي الحكايات أكتب، أبحث في صندوق كرتون متوسط الحجم، بين كل تلك اللحظات القصيرة في حياتي، أي ومضة أستطيع إطالتها، اللعنة، فجميعها، عن يديّ، ابتعد.
الحالة؛ حيرة، طالت، وحالت إلى ضيق، إغتال أنفاسي، ثم استقر بقاع فنجان زجاجي امتلأ عن آخره بقهوة حليب-سكر زائد. بالمناسبة .. هنا، دون البورصة المقابلة، رغم ضيق الحيّز، وبساطة ما يشربه الحضور، بل وبساطة الحضور أنفسهم، أفضِّل القهوة، لا الشاي، في الممّر الخلفي، بين بنايتين عتيقتين. أتجّرعها بنهمٍ هاديء جداً، وممل جداً، قبل أن تبرد، ثم أترك آخر ربع فيها، يسكن، يمتزج أكثر بالسكّر الزائد، أحيلها إلى سكر زائد-قهوة حليب، وأراجع ما كتبت، أمسح الكلمات الزائدة، أعيد هيكلة الجمل، أرقّي الفواصل، أمنح النقاط أرفع الأوسمة، أنحّي علامات الاستفهام، أحيل جمّل التعجّب إلى التقاعد المبكّر، وأميل أكثر إلى الوصف الذي يأكل لذته، الاختصار، وفي النهاية، أنظر إلى ما كتبت، أهزّ رأسي بالرفض المتشدّد، وأحيله إلى عدم.


العُقدة؛ الدقائق التي تسير بانتظام مرعب، أتأمّل ما تبقى من قهوة، يتأملها، كذلك، القهوجي، شاربه ثقيل، ذقنه خفيفة، محفوفة على هيئة موجة صيف منحسرة. يبدأ الزبائن في غزو محيط الصمت، واكتشاف الطاولات. هناك رجل تقف في مقدمة عينيّه نظارة، بلا إطار، ينمّ صفاءها عن صفاءه، يملأ ما تبّقى من رأسه، شعر أبيض كلون قلبه؛ يتحدث مع زميل له عن رجب المحامي، الذي لم يأتِ في ميعاده، " .. يعني ينفع أستناه ساعة قدّام محكمة الأسرة ؟ .. أيوة ياعم .. رجب .. رجب المحامي .. .. معايا الفلوس أنا .."، ينتفض من مكانه، يبحث عن مخرج، فيباغته صوت القهوجي من الداخل "على فين؟"، فيردد، "الحمّام، الحمّام". على الطاولة المقابلة آخر، يحمل فوق رأسه نظارة شمس، يلبس بلوفر أخضر وقميص بنّي، يقطع حبل أفكاري رسالة نصيّة، لا يهمّ، سأركز، نعم، لقد سبق وكتبت الكثير من القصص الرائعة، أريد المزيد من التركيز، التركيز يقلّ، يتلاشى، فضولي، كالعادة، تستثيره أقل الأشياء، "إعرف الرسول محمد عليه الصلاة والسلام أكثر واستقبل كل يوم صفة أو قصة عنه لمدة أسبوع ببلاش، للاشتراك إبعت رسالة فاضية ل 8154 ب 30 قرش"، اللعنة عليكم جميعاً، على الرسائل، الفضول، الحضور، وعلى رجب المحامي. أنظر إلى الساعة، "الثانية عشر وإثني عشر دقيقة"، ثمة فناة صغيرة تشرب الفراولة، تغازل قط، بل قطة، تحمل في عنقها، كيس بلاستيك بشكل يثير الضحك، يُقِيم أحدهم الظهر بمسجد مجاور، يمرّ رجل عجوز يحمل المناديل، يسبغ عليهم بدعوات الصحة والمال والذرية الصالحة، يتجاهله الأوغاد، يحاسب شابين وفتاتين القهوجي، "اتنين شيشة .. أربعة شاي زردة .. واتنين عنّاب"، يستقل الأربعة سيارة فِيات-هاتش باك رمادية مركونة على الجانب الآخر. القهوجي، يمسح الممر بعينه بحثاً عن راحل ..  ثم يُقيم أحدهم من مسجد آخر.


الحلّ؛ الفتاة تضرب القطة برجلها، والأخيرة، ترمقها بنظرة غاضبة. وبنظرة أقل غضباً، وأكثر حذراً، جلس ظابط، يراقب الحضور، الرجل ذو البلوفر الأخضر يلعب "سناك"، ويرشف الشاي بصوت عالٍ. الظابط لم يعد ظابطاً، بل جاكته الأسود على هيئة بدلة شرطة شتوي فوق قميص به رسم لونه أحمر في المنتصف، لا أتبينها، الظبّاط لا يرتدون اللون الأحمر، فقط يشربونه. أنظر إلى المصّلين داخل القهوة، "تؤمر يا باشا"، أنظر إلى الساعة، الثانية عشر والنصف، "الحساب لو سمحت" .. " أخدت إيه؟" .. "واحد قهوة حليب-سكر زائد" .. "ستة جنيه يا باشا". أحاسب القهوجي، وفوق الحساب، جنيه بقشيش، أتوّجه إلى المصّلين، لا أجد مكاناً في الصفّ، أنتظر الجماعة الثانية، تلمع فكرة قصة قصيرة في رأسي كغواية لا مهرب منها، أعود سريعاً إلى الطاولة، أكتب:

"المكان، طاولة، على هيئة مستطيل، في مواجهة قائم حديدي يفصل بين بورصتين ... " .



محمد عمر
15 إبريل 2013   

الأحد، أبريل 07، 2013

هاديء، بائس، هزيل


هاديء، بائس، هزيل.

يقف أمام فقاعات المياه التي تتشيطن، تتضخم، تتقافز بجنون لثانية أو ثانيتين قبل أن يُحكِم إغلاق النار. تعود المياه إلى هدوئها، ترتفع إلى نصف الكوب، تمتزج معها ثلاثة ملاعق ممتلئة عن آخرها بالسكر الخشن، وفتلة الشاي، يغرقها لقاع الكوب، يثير حوّلها دوّامة، فوهتها واسعة، يعتصرها حتى الموت، يلقي بها من أعلى؛ لتستقر فوق كيس أسود، رقبته، معلّقة بمسمار تسعة، رأسه مرفوع، موجوع من حِمل القمامة التي تكاسل عن إلقاءها في الصباح.

يمشي بمنتصف الممر الضيّق، يمقت جدرانه بشّدة، يمقت الضيق بوجه عام، يسرع خطوتين، يقترب من وهج التلفاز المتراقص. كل شيء بالغرفة على استعداد، فالبرنامج الأسبوعي الساخر هو آخر ما تبّقى لهم جميعاً من لذة. الفقرة الإعلانية –كعادتها- طالت، وحرارة الشاي تحاول الإفلات من قبضة يده، محال، لن يدعها ترحل كأبناءه، مع الأيام زاد عددهم، طموحهم. قوتهم طغت على ضعفه، وضجرهم انتصر على تحكّمه، والزوجة التي توّلت إدارة شئون الحكم عليهم، وعليه، ماتت بداء السكر، ومات معها صوتها العالي، وهمجيتها المشينة. كل الأصوات آلت إلى صمت بارد، حتى هاتفه النقّال أصابه نفس الإعياء، تحّول في زمن الهجر إلى منّبه، منبّه لماذا؟، لا يعلم، فلا عمل، لا أصدقاء، لا أقارب، الحبل الذي ربطه بالناس انفتل مع الأيام. ساعات الحائط نفذت بطارياتها. شقة ذات إيجار قديم ليس بها مرآة أفضل من دار مسنين بها من أشباهه الكثير، وأرخص. الفقرة الإعلانية –أخيراً- انتهت، والبرنامج الأسبوعي الساخر بدأ، أصوات خيبة الأمل صعدت إلى السماء من قهوة أسفل المنزل، لحقتها شتائم للحكومة والنظام، انقطاع الكهرباء عن المنطقة أمسى طقساً اجتماعياً لا بدّ منه، اللعنة، حتى اللذة الوحيدة بها كدر.

لم يجد أمامه من مهرب، عادةً لا تعود الكهرباء قبل ساعتين، يكون عندها البرنامج قد انتهى. توّجه إلى الغرفة المقابلة بلا قارب، بحرٌ من اللون الأسوّد إبتلع الوجود، أمواجه شديدة الكثافة، جدّف بذراع واحدة حتى استقر فوق مرتبة إسفنج غير مضغوطة تعلو سرير نحاس طوله أقصر منه. تحسس فوق الكومودينو، وأمسك بعلبة الفيرباميل. منذ طفولته كان لا يأخذ الأقراص إلا مع كمية كبيرة من المياه، حتماً، لن يتوّجه إلى المطبخ وسط هذا الظلام، تكاسل، عامةً هو لا يرغب في النوم، سينتظر أن تعود الكهرباء، بعدها، يأخذ الدواء، هو يخشى صراخ الدكتور أشرف، وتأنيبه المضجِر.

يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، حتى ضوء القمر، أتعبه المسير، فركن ظهره على النافذة، واستراح.

يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، حتى الخيالات انمحت، لماذا لم يمت حتى الآن؟، كيف هي حياة التابوت؟ مساحة مهترئة؟، امتدادٌ أقصر منه؟، لا ناس؟، لا نور؟، لا صوت؟، وحده مع كائن أسود، يفرض حضوره على كل شيء؟ ، لم يحن الوقت بعد. فكّر في الملل، ملّ منه، حاول استحضار اليأس، يئس منه، شيء واحد حاول ألا يجالسه، لكنه استقر أمامه؛ سؤالٌ، واحد، ملّح، ماذا لو أن كل ما فعله في حياته –خاصةً- مع أبناءه كان خطئاً في خطأ؟. يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، يتأمل النافذة من جديد، يفتح عينيه، يغلقها، يجد اختلافاً هزيلاً؛ يغلقها، يسرح في أشياء كثيرة، تتداخل الأفكار، يتسارع تقاطعها، رفقاؤه الذين سافروا منذ بداية حياتهم إلى السعودية، ال 20 جنيه التي أعطاها له أستاذ شكري مدّرس الرياضيات وعليها توقيعه، مشادة بينه وبين ابنه الأكبر، حلقة من البرنامج الساخر، اللّص الذي أمسكوه في شقة أم ميرفت منذ أسبوع، وسط انقطاع الكهرباء، لكنه، لخفته، استطاع الإفلات منهم.

يتأمل النافذة مرة أخرى، زوجته تكاد تلقي بنفسها من ارتفاع، لكنّ الكثافة تمنعه من الحركة، وأين هي الحركة؟، لا مبالاة، ينتابه فزع من لامبالاته!.

يغلق عينيه، يفتحهما، لا شيء سوى الحضور الأسود، تهدأ أنفاسه، تلتقط أذنه حركة -غير معتادة- بالمطبخ، اللصّ الذي سرق أم ميرفت؟، أم فأر قادم من المنْوَر؟، الصوت يقترب؟، لا، نعم، بثقة، بخفة، يعلو، ثم يخفت. أدخل أنفاسه تحت السرير، كمّم قلبه كي يخفض من ضوضاءه، اتسعت حدقة عينه، طغت على المساحة البيضاء، حتى اختفت، النور غمر الشقة، عكس وجود اللّص الوهمي فوق رأسه، تشنجّت قدماه ، أصوات الفرحة ارتفعت من القهوة أسفل المنزل، والفقرة الإعلانية الثانية بدأت. علبة الفيرباميل سقطت على الأرض، تناثرت الأقراص، تمددت ذراعه على الكومودينو، هاديء، بائس، هزيل. 

ShareThis