صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، أبريل 15، 2013

قصة قصيرة


المكان؛ طاولة، على هيئة مستطيل، في مواجهة قائم حديدي يفصل بين بورصتين. تقف على أربع أقدام من الخشب العجوز، قصيرة إلى الحد الذي أمرر، بصعوبة، ركبتيّ من خلالها. رأسها، يغطّيه مشمّع بلاستيك، سميك، مطبوع عليه علامة ليبتون، وسطحها أملس، فلا يسمح للماوس الوايرلس الخاص بي أن يتحرّك بحرّية. تبّقى لي منها مساحة ضئيلة لقلم، لا أرسم به سوى دوائر متقاطعة، تعكّر صفو ما لدي من ورق أبيض، وفلاشة نت مضربة عن العمل، وهاتف نقّال لا يرغب في التواصل مع الناس، كثيراً.


الزمان؛ الحادية عشر والنصف ظهراً. باقي من الوقت المُباح ساعة، ولا أدري، رغم رغبتي الملّحة، عن أي الحكايات أكتب، أبحث في صندوق كرتون متوسط الحجم، بين كل تلك اللحظات القصيرة في حياتي، أي ومضة أستطيع إطالتها، اللعنة، فجميعها، عن يديّ، ابتعد.
الحالة؛ حيرة، طالت، وحالت إلى ضيق، إغتال أنفاسي، ثم استقر بقاع فنجان زجاجي امتلأ عن آخره بقهوة حليب-سكر زائد. بالمناسبة .. هنا، دون البورصة المقابلة، رغم ضيق الحيّز، وبساطة ما يشربه الحضور، بل وبساطة الحضور أنفسهم، أفضِّل القهوة، لا الشاي، في الممّر الخلفي، بين بنايتين عتيقتين. أتجّرعها بنهمٍ هاديء جداً، وممل جداً، قبل أن تبرد، ثم أترك آخر ربع فيها، يسكن، يمتزج أكثر بالسكّر الزائد، أحيلها إلى سكر زائد-قهوة حليب، وأراجع ما كتبت، أمسح الكلمات الزائدة، أعيد هيكلة الجمل، أرقّي الفواصل، أمنح النقاط أرفع الأوسمة، أنحّي علامات الاستفهام، أحيل جمّل التعجّب إلى التقاعد المبكّر، وأميل أكثر إلى الوصف الذي يأكل لذته، الاختصار، وفي النهاية، أنظر إلى ما كتبت، أهزّ رأسي بالرفض المتشدّد، وأحيله إلى عدم.


العُقدة؛ الدقائق التي تسير بانتظام مرعب، أتأمّل ما تبقى من قهوة، يتأملها، كذلك، القهوجي، شاربه ثقيل، ذقنه خفيفة، محفوفة على هيئة موجة صيف منحسرة. يبدأ الزبائن في غزو محيط الصمت، واكتشاف الطاولات. هناك رجل تقف في مقدمة عينيّه نظارة، بلا إطار، ينمّ صفاءها عن صفاءه، يملأ ما تبّقى من رأسه، شعر أبيض كلون قلبه؛ يتحدث مع زميل له عن رجب المحامي، الذي لم يأتِ في ميعاده، " .. يعني ينفع أستناه ساعة قدّام محكمة الأسرة ؟ .. أيوة ياعم .. رجب .. رجب المحامي .. .. معايا الفلوس أنا .."، ينتفض من مكانه، يبحث عن مخرج، فيباغته صوت القهوجي من الداخل "على فين؟"، فيردد، "الحمّام، الحمّام". على الطاولة المقابلة آخر، يحمل فوق رأسه نظارة شمس، يلبس بلوفر أخضر وقميص بنّي، يقطع حبل أفكاري رسالة نصيّة، لا يهمّ، سأركز، نعم، لقد سبق وكتبت الكثير من القصص الرائعة، أريد المزيد من التركيز، التركيز يقلّ، يتلاشى، فضولي، كالعادة، تستثيره أقل الأشياء، "إعرف الرسول محمد عليه الصلاة والسلام أكثر واستقبل كل يوم صفة أو قصة عنه لمدة أسبوع ببلاش، للاشتراك إبعت رسالة فاضية ل 8154 ب 30 قرش"، اللعنة عليكم جميعاً، على الرسائل، الفضول، الحضور، وعلى رجب المحامي. أنظر إلى الساعة، "الثانية عشر وإثني عشر دقيقة"، ثمة فناة صغيرة تشرب الفراولة، تغازل قط، بل قطة، تحمل في عنقها، كيس بلاستيك بشكل يثير الضحك، يُقِيم أحدهم الظهر بمسجد مجاور، يمرّ رجل عجوز يحمل المناديل، يسبغ عليهم بدعوات الصحة والمال والذرية الصالحة، يتجاهله الأوغاد، يحاسب شابين وفتاتين القهوجي، "اتنين شيشة .. أربعة شاي زردة .. واتنين عنّاب"، يستقل الأربعة سيارة فِيات-هاتش باك رمادية مركونة على الجانب الآخر. القهوجي، يمسح الممر بعينه بحثاً عن راحل ..  ثم يُقيم أحدهم من مسجد آخر.


الحلّ؛ الفتاة تضرب القطة برجلها، والأخيرة، ترمقها بنظرة غاضبة. وبنظرة أقل غضباً، وأكثر حذراً، جلس ظابط، يراقب الحضور، الرجل ذو البلوفر الأخضر يلعب "سناك"، ويرشف الشاي بصوت عالٍ. الظابط لم يعد ظابطاً، بل جاكته الأسود على هيئة بدلة شرطة شتوي فوق قميص به رسم لونه أحمر في المنتصف، لا أتبينها، الظبّاط لا يرتدون اللون الأحمر، فقط يشربونه. أنظر إلى المصّلين داخل القهوة، "تؤمر يا باشا"، أنظر إلى الساعة، الثانية عشر والنصف، "الحساب لو سمحت" .. " أخدت إيه؟" .. "واحد قهوة حليب-سكر زائد" .. "ستة جنيه يا باشا". أحاسب القهوجي، وفوق الحساب، جنيه بقشيش، أتوّجه إلى المصّلين، لا أجد مكاناً في الصفّ، أنتظر الجماعة الثانية، تلمع فكرة قصة قصيرة في رأسي كغواية لا مهرب منها، أعود سريعاً إلى الطاولة، أكتب:

"المكان، طاولة، على هيئة مستطيل، في مواجهة قائم حديدي يفصل بين بورصتين ... " .



محمد عمر
15 إبريل 2013   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ShareThis