صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، نوفمبر 17، 2012

أماني

لم تراعِ زميلتي الدكتورة شروق حجم الألم الذي رجرج كل خلية يحملها جسدي وهيّ تطعم ابنتها الصغيرة أسماء من الغداء الذي تعده لها الثلاثاء من كل أسبوع، بعد خروج الأخيرة من المدرسة وانتظارها مع أمها إلى الخامسة مساءاً حيث ينتهي يوم النبطشية الطويل. أسوأ شيء في الكون أفلام خالد يوسف، والأسوأ منها تلك اللحظة قصيرة العُمر التي تحتك فيها الملعقة الحديدية بالأسنان.

حاول الأدرينالين أن يقوم بأي شيء قبل أن ينهار جهازي العصبي مع تكرار الاحتكاك:
( ارحمي أمّي يا شروق، مش لازم تحُكّي المعلقة في أسنان البنت)

فزعت أسماء من ردة فعلي التي لم تعتادها مني، فأشارت إليّ بأن أشاركها الطعام، قلت: ( شكراً يا بطبوطة) ثم أعدت زمام تركيزي مرة أخرى إلى الهاتف، وصلت للمرة السابعة وأنا أرنّ على الدكتورة أماني فيشير الهاتف من خلال شاشته المشروخة "وايتنج" ..
- (بتكلمي مين ؟ ها .. ها .. بتكلمي مين ؟)
- (بطلي عبطك ده .. ديه أماني بقى لها نصف ساعة بترغي، تذكرني بالبنات الصغيرين بتوع اليومين دول ، لا يكتفون من الرغي مع المقاطيع الذين يعيشون معهم قصص الحب الفارغة .. الله يخرب بيت موبينيل وعروضها)

 ضحكة مكتومة من شروق تعني أن الدكتور سالم بالغرفة التي تجاورنا قد سمعها.

- ( ردّي بقى يا أماني).
- بنبرة تحمل شريطاً طويلاً من الأخبار التي لم تحكها لي شروق بعد قالت: ( اتركيها فيما هي فيه هذه الأيام) ، ثم تابعت -بعد أن أعادت حكّ الملعقة الحديدية بأسنان أسماء مجدداً-: ( عايزاها في إيه أوي كدة؟)
- ( مفيش، الست جابت لي هدايا من رحلة عمرتها الأخيرة، فحبيت أشكرها)

قاطعنا دخول الدكتور السالم المفاجيء ، والمعتاد ، دون استئذان ..

- ( معلش يا دكتورة شروق، تعالي شوفي الحالة ديه، ألا عندي مكالمة طويلة ومهمة لازم أعملها برة الوحدة دلوقتي، ومش عايز الدكتورة وفاء تاخد بالها من حاجة ..)
تساءلت: ( والدكتور أيمن فين؟) ، فردّت شروق: ( ما انتي عارفة، مظبّط مع وفاء، وبيزوّغ كل مرة قبل نهاية النبطشية بساعة .. )، ثم التفت إلى الدكتور سالم وهي تعطي لي الطبق مشيرة لأن أكمل مع ابنتها ( روح انت يا دكتور وأنا قايمة للحالة ..) وأردفت إلى ابنتها: ( سوسو .. خليكي هنا مع خالتو .. وماتعمليش شقاوة أنا هاجي بسرعة) ..

أكملت لأسماء غداءها، وسرحت في سر المكالمة التي جعلت الدكتور سالم، بجسده المتهدل، وهيكله الأشبه بكائن البهموت المنقرض، وصوته الذي يرجرج الوحدة وقت التهليل لأحد المرضى، ليتحوّل إلى فأر هامستر نشيط، عينيه لامعتين، ويجري في حلقة لا تنتهي من الوهم وراء قطعة الجبن التي أمامه.

قاطعتني مكالمة من أماني:
- ( ازيك يا دكتورة ..)
- ( ازيك يا دكتورة أماني، معلش أنا زنّيت عليكي كتير، بس حبيت أشكرك على الهدايا الحلوة اللي جبتيهالي، وربنا يتقبل منك العمرة .. و .. )
- ( لا شكر على واجب يا دكتورة .. ربنا يكتبهالك .. تؤمريني بأي خدمة ؟ )
- ( ربنا يخليكي ..)
- ( سلامو عليكو ..)

غريبة جداً هذه الشخصية، صحيح أنها ممرضة، كذلك تخّرجت من معهد تمريض، لكن اقترابها من الستّين، وجمالها الذي لم تنجح الأيام في قهره، وينبئك بأنها كانت "مُزّة" حتى وقت قريب، يجعل لها حضور لا يستحق أقل من لقب دكتورة. أماني عملت في الحكومة منذ الخامسة عشر من عمرها، رأت مرمطة وبهدلة لم يرها أحد، تزوّجت من ابن عمّها -كما تقول تقاليد عائلتها- وانتقلوا إلى المدينة بانتقال عملها إلى وحدة العامرية، أنجبت بنتاً مريضة بالصرع، لم تعش كثيراً، فتركتها ورحلت عن الدنيا، أما زوجها، فجاءت له فرصة سفر إلى الخليج، غاب عنها ثلاث سنين قبل أن يطلقها لمّا اكتشفت زواجه السرّي من مُدرّسة مصريّة، طمع في مرتبها وجمالها. انتهى همّ أماني بوفاة أبوها الذي ترك لها نصيباً من الميراث ينسيها كل مرارة الدنيا من قبل. عاشت بقية حياتها وحيدة تهنيء نفسها بالمال الذي أودعت جزء منه في البنك، وشغّلت جزء آخر في شراء العقارات والشقق اللقطة ثم بيعها، تكسب كل ثلاث شهور ما لا يقل عن مائة ألف جنيه في البيعة الواحدة أو البيعتين، ولا تحرم نفسها من شيء. بالإضافة إلى القضية التي رفعتها على الدولة منذ سنة لعملها بوحدة العامرية ووحدة العجمي الطبية قبل أن يتمّ تقسيمهما إلى وحدتين منفصلتين لسبع سنوات، ووكلت محامي عُقر في تتبعها، نجحت في استحقاق خمسة وعشرين ألف جنيهاً، لديها شقة صغيرة ببيانكي، وسيارة أوبل أسترا زرقاء موديل 2000، علمت أنها لا تفوّت العشر الأواخر من رمضان إلا وتعتكف أمام الحرم، وتزور سيدنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).


دخلت عليّ "شروق" وهي تضحك، أقسمت لي بكل الميتين في عائلتها، أن الدكتور سالم يتحدث مع زوجته التي يُشاع في الوحدة أنها تعمل دكتورة في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، رغم أننا لم ننجح في جرّه إلى البوح بأي شيء عن حياته، وبلوغه سن الأربعين دون أن نعلم له زوجة من عيال. قالت لي شروق -وهي تضحك ضحكة طفولية معبئة بالعبط- أن أماني ستتزوج قريباً من رجل يكبرها بثلاث سنين، وحيد، وليس له أطفال، رفضته منذ سنتين خوفاً من أن يكون طامع آخر في أموالها، ليسرقها ويقيد حريتها، ثم يرميها في النهاية رمية الكلاب، لكنها عدلت عن قرارها، ويبدو أنها مالت له.

سرحت عن شروق وأسماء والوحدة إلى مليون سؤال وسؤال، هل هو خوف من الفراغ أحسّت به أماني بعد حفلة التوديع الأخيرة التي أقمناها لها بمناسبة طلوعها على المعاش، أم أنه محاولة للبحث عن السعادة التي لم تجدها مع كل تلك الأموال والسنين التي صعدت على أكتافها، أم هو حبيب قديم، صبر ستين عاماً وثلاثة، حتى جمّعتهم الأقدار مرة أخرى ...

- (ابقي أكلّي بنتك بعيد عنّي يا شروق بعد كدة عشان ماتغاباش عليكوا انتو الإتنين ..)



محمد عمر
نوفمبر 2012

الجمعة، نوفمبر 16، 2012

زينب

زينب لم تنتحر، لم تشرب السجائر بافراط، لم تخرج غيظها في أبناءها، ولم تفكر حتى في قتل أستاذة عزّة مديرتها التي التزمت بالصمت طوال سنة وسبعة أشهر حتى انتظرت الغلطة الوحيدة لزينب قبل أن تحوّلها للنيابة الإدارية بتهمة الاختلاس، وينتهي بها الحال لتلك الفضيحة وسط دكاترة الوحدة، وتُسحب منها مهمة تسليم المرتبات. زينب لم تختلس. كل ما في الأمر أنها سلمّت مرتبات دكاترة وحدة العامرية إلى الدكتورة وفاء، والتي كانت ستقوم بدورها -كما يحدث كل شهر- إلى تسليم المرتبات لبقية الدكاترة. لكن سوء حظّها أن الدكتورة وفاء توّفت في الطريق، ولم تكن قد مضت -هذه المرة- على الأوراق الرسمية التي تثبت تسّلمها مرتبات زميلاتها، ولمّا جاءت الشكوى من العامرية، كانت التهمة قد أحاطت رسميّاً بها. وما هو ذنب زينب؟. ما هو ذنب محاسبة غلبانة (على حد تعبير زينب) في إحدى الوحدات الصحّية التابعة للحكومة، سوى أنها تكسب -كل ما تكسبه- أوّل كل شهر -بجانب مرتبها من الحكومة- خمسة جنيهات من كل طبيب/صيدلي/طبيب أسنان يستلم منها مرتبه، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف مرتبها، "وياريته بيكفّي" -كما تقول أوّل كل شهر-.ـ

ما حدث أن زينب أخرجت هي الأخرى غلطات عزّة التي احتفظت بها في الدرج. عزّة لم تتحمّل عقاب النيابة الإداري، وطلبت نقلها إلى وحدة صحيّة أخرى في منطقة شبه نائية بنفس المنصب، فهي -على عكس زينب- لم تتحمل أن تجلس على كرسي آخر غير كرسيّ مديرة القسم. عزّة تعاني كل يوم في المواصلات، وطالبت زوجها بأن "يتصرف" ويشتري لها سيارة بالقرض الحسن بدون فوائد -كما جاء الإعلان على إحدى القنوات الإسلامية-.ـ

المحاسبة الجديدة رغم أنها لا تمتلك بجاحة زينب -وقدرتها على الشرشحة- في أخذ الخمسة جنيهات من كل طبيب/طبيب أسنان/صيدلي أول كل شهر. لكنّها مضطرة لذلك، خاصةً بعد أن وعدتها الأخيرة بأن تتكتم على غلطاتها ولا تفضحها أمام مديرة القِسم الجديدة.ـ


محمد عمر
أكتوبر 2012

ShareThis