صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، نوفمبر 13، 2010

بعيداً

أُطفيء الأباجورة، وأدفن رأسي داخل المِخدّة . أرخي جسدي على السرير ، أرهف سمعي لصوت البَرد المُندفع من مكيّف الهواء ؛ وأقف وحدي أمام بوابة الرحلات المغادرة !ـ

أصوات تأتي من بعيد ، قطار يجري بلا توقف ، وفوضى من الأفكار المتضاربة تملأ النفق الممتد على مرمى البصر . عالمٌ ينشأ فجأة من العدم ، كل شيء كبير الحجم، وأنا هنا صغير ، ضعيف ، ومستسلم .ـ

أفتح عيني وأتأمل الغرفة التي أعرفها أكثر من أي شخص في العالم ، لأكتشف أنّي في أكثر مناطق الكون غموضاً ! الدولاب يتحوّل إلى مُقاتل ضخم من مقاتلي العصور القديمة ويتهيأ ليقسِمني إلى نصفين بحربة كبيرة حادة ، والكرسي والمنضدة ، وكل ما في الغرفة ، أموات خرجوا من قبورهم ، يتقدمون نحوي بأيديهم التي تمتد والملطخة بالسواد لتطبق على رقبتي ، والسرير يضمني بذراعيه المفتولين بقسوة ويضغط على ضلوعي بعنف . أكاد أختنق ، أكاد لا أسمع إلا صدى الأنفاس في بقايا أوردتي التي تنزف في برود .


لا أعلم ماذا يحدث بعد ذلك ، وكيف أنجُ كل مرة من فيلم الرعب هذا ؟ .

ما أذكره أني أفزع عندما تدق السابعة صباحاً كالعادة . أبحث عن الحربة خلف الدولاب فلا أجد شيئاً ، أضرب الكرسي برجلي ، أتلفت حولي ، وأتأمل السرير قليلاً . كل شيء كما هو ، لا يرى لا يسمع لا يتكلم . يرّن المنبّه مرة أخرى، فأصبّ كامل حنقي عليه.


يمر اليوم .. كأي يوم ، وبين الحين والآخر تظهر مجموعة من الوَمضات سريعاً ثم تختفي . صور خيالية لعالم متمرد لا يعترف بقوانيننا ، أسطورة ليلية أنا بطلها الوحيد ، أتغلب فيها على كل شيء ، أشعر معها بالنشوة ، وأُجهِدُ الذاكرة لأسترجع دقيقة واحدة منها كل صباح ، لكن بلا فائدة .. سأطفئ الأباجورة .


ـ ( ثمة شيء يتحرك ! )ـ



محمد عمر

نوفمبر 2010

الجمعة، نوفمبر 05، 2010

فاضي

عندما يأتي منتصف الليل ، ويغلق صاحب المحل باب الدكان ؛ تبدأ مأساة كل ليلة !، -يتساءل : “هل من العدل أن تضعه الأقدار بجوار هؤلاء الحثالة الرمم؟ “. ولمّا يَجهد العقل، وتتفق جميع الأسئلة على نفس الإجابة من اللاشيء؛ يدخُل في دوامة الاكتئاب الملازمة لقرف الوحدة ومرارة العيش. يأتي الصباح، يُفتح الدكان، ويذوب كل شيء في مشاغل العمل وزحمة الزبائن.ـ

أناقته وشياكته أهم ما فيه. تلك الميزة التي أضفت عليه أمام زبائن الدكان مزيداً من الأبهة والعنجهية، هي نفسها أكبر مصدر إزعاج في حياته!، فتلك الأيادي التي تتناوله برفق، وتلك العيون -التي تتطلع جماله وتنبهر بسمته- تتجاهله بعد فترة، وتُنسي نفسها أنها رأته.ـ

أخيراً ظهر من يقدر قيمته، ذلك الرجل ذو الجاكتة البُنيّة والنظارة الشمسية الأنيقة، ليس ثرياً بالقدر الكبير، لكن تبدو عليه النعمة .

ـ(نورّت المحل يا بيه ، أي خدمة).

يأتي الرد بعد برهة: (بكم هذا القلم ؟)


يبلع البائع ريقه ، ثم يقول في أدب مصطنع :ـ

(ذوق حضرتك يا بيه عالي جداً ، إنه أغلى قلم عندي !ـ)

ـ(فعلاً ؟ ، ليس بطّالاً ، لكنه أشيك وأجمل قلم رأيته عندك ..).ـ

يسرح الرجل فيه للحظة ثم يتابع:ـ (سأشتريه .. لكن، هل بإمكاني تجربة خطه أولاً ؟ )ـ

يبتسم البائع لهذه الإستفتاحة ويبحث بيديه الملهوفة في المكتب أمامه عن أي ورقة تصلح للتجربة .. (تفضل يا بيه . جربه على الورقة هذي ) هكذا قال البائع متلهفاً، ليجعل يومي أسوأ يوم في حياتي!ـ

فما حدث أن تجاعيد وجه الرجل إنقلبت فوق بعضها البعض ، وعلا صوته قائلاً في غضب: (ما هذا ؟ ، هل تهزأ بي يا رجل ؟ تبيع لي قلم فاضي ؟؟!). فارتبك البائع وبحثت حروفه عن أي طوق نجاة ، ثم رد في استكانة:ـ

(لم أقصد يا بيه والله ، لم أجربه عندما اشتريته ، منهم لله الغشاشين .. منهم لله الغشاشين!ـ)

فقاطعه الرجل مشوحاً بيده:ـ

(أعطني آخر إذن ..ـ )

بلع البائع ريقه بصعوبة عندما قال : (للأسف يا بيه .. لا يوجد غيره . عامةً ليس منه فائدة ، سأرميه وعوضي على الله . أنا آسف يا بيه). نظر له الرجل نظرة متعالية، ورماني على طاولة المكتب من ارتفاع عالٍ فكاد أن ينكسر ظهري قبل أن يرحل ذلك الوغد !.ـ


النظرات الشامتة والضحكات المكتومة التي ملأت رفوف المكتبة تلك الليلة من هؤلاء الحمقى لا أستطيع تحملها بعد أن عرفوا أنّي فاضي. فالمسطرة الطويلة الرخيمة تشير إليّ من بعيد ولم تتوقف عن الضحك طيلة الليل . وبعض الأقلام الرصاص جلست سوياً تطلق عليّ مجموعة من النكات وتضحك بصوت مجلجل. حتى الكراسة العجوزة التي ملأ صدرها التراب كانت تكح ، وتقول: (ألم أقل لكم ، انه أقل مما يوحي به مظهره الخادع) ، ثم تكح.ـ



ـ ( ما هذه اللعنة التي حلّت بي ؟)ـ

تمتم بنبرة حزينة، ناقمة، ومكتومة: ـ

ـ(لا فائدة منكم ، سأنتحر ! )ـ

محمد عمر
نوفمبر 2010

ShareThis