صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، أبريل 07، 2013

هاديء، بائس، هزيل


هاديء، بائس، هزيل.

يقف أمام فقاعات المياه التي تتشيطن، تتضخم، تتقافز بجنون لثانية أو ثانيتين قبل أن يُحكِم إغلاق النار. تعود المياه إلى هدوئها، ترتفع إلى نصف الكوب، تمتزج معها ثلاثة ملاعق ممتلئة عن آخرها بالسكر الخشن، وفتلة الشاي، يغرقها لقاع الكوب، يثير حوّلها دوّامة، فوهتها واسعة، يعتصرها حتى الموت، يلقي بها من أعلى؛ لتستقر فوق كيس أسود، رقبته، معلّقة بمسمار تسعة، رأسه مرفوع، موجوع من حِمل القمامة التي تكاسل عن إلقاءها في الصباح.

يمشي بمنتصف الممر الضيّق، يمقت جدرانه بشّدة، يمقت الضيق بوجه عام، يسرع خطوتين، يقترب من وهج التلفاز المتراقص. كل شيء بالغرفة على استعداد، فالبرنامج الأسبوعي الساخر هو آخر ما تبّقى لهم جميعاً من لذة. الفقرة الإعلانية –كعادتها- طالت، وحرارة الشاي تحاول الإفلات من قبضة يده، محال، لن يدعها ترحل كأبناءه، مع الأيام زاد عددهم، طموحهم. قوتهم طغت على ضعفه، وضجرهم انتصر على تحكّمه، والزوجة التي توّلت إدارة شئون الحكم عليهم، وعليه، ماتت بداء السكر، ومات معها صوتها العالي، وهمجيتها المشينة. كل الأصوات آلت إلى صمت بارد، حتى هاتفه النقّال أصابه نفس الإعياء، تحّول في زمن الهجر إلى منّبه، منبّه لماذا؟، لا يعلم، فلا عمل، لا أصدقاء، لا أقارب، الحبل الذي ربطه بالناس انفتل مع الأيام. ساعات الحائط نفذت بطارياتها. شقة ذات إيجار قديم ليس بها مرآة أفضل من دار مسنين بها من أشباهه الكثير، وأرخص. الفقرة الإعلانية –أخيراً- انتهت، والبرنامج الأسبوعي الساخر بدأ، أصوات خيبة الأمل صعدت إلى السماء من قهوة أسفل المنزل، لحقتها شتائم للحكومة والنظام، انقطاع الكهرباء عن المنطقة أمسى طقساً اجتماعياً لا بدّ منه، اللعنة، حتى اللذة الوحيدة بها كدر.

لم يجد أمامه من مهرب، عادةً لا تعود الكهرباء قبل ساعتين، يكون عندها البرنامج قد انتهى. توّجه إلى الغرفة المقابلة بلا قارب، بحرٌ من اللون الأسوّد إبتلع الوجود، أمواجه شديدة الكثافة، جدّف بذراع واحدة حتى استقر فوق مرتبة إسفنج غير مضغوطة تعلو سرير نحاس طوله أقصر منه. تحسس فوق الكومودينو، وأمسك بعلبة الفيرباميل. منذ طفولته كان لا يأخذ الأقراص إلا مع كمية كبيرة من المياه، حتماً، لن يتوّجه إلى المطبخ وسط هذا الظلام، تكاسل، عامةً هو لا يرغب في النوم، سينتظر أن تعود الكهرباء، بعدها، يأخذ الدواء، هو يخشى صراخ الدكتور أشرف، وتأنيبه المضجِر.

يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، حتى ضوء القمر، أتعبه المسير، فركن ظهره على النافذة، واستراح.

يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، حتى الخيالات انمحت، لماذا لم يمت حتى الآن؟، كيف هي حياة التابوت؟ مساحة مهترئة؟، امتدادٌ أقصر منه؟، لا ناس؟، لا نور؟، لا صوت؟، وحده مع كائن أسود، يفرض حضوره على كل شيء؟ ، لم يحن الوقت بعد. فكّر في الملل، ملّ منه، حاول استحضار اليأس، يئس منه، شيء واحد حاول ألا يجالسه، لكنه استقر أمامه؛ سؤالٌ، واحد، ملّح، ماذا لو أن كل ما فعله في حياته –خاصةً- مع أبناءه كان خطئاً في خطأ؟. يغلق عينيه، يفتحها، لا اختلاف، يتأمل النافذة من جديد، يفتح عينيه، يغلقها، يجد اختلافاً هزيلاً؛ يغلقها، يسرح في أشياء كثيرة، تتداخل الأفكار، يتسارع تقاطعها، رفقاؤه الذين سافروا منذ بداية حياتهم إلى السعودية، ال 20 جنيه التي أعطاها له أستاذ شكري مدّرس الرياضيات وعليها توقيعه، مشادة بينه وبين ابنه الأكبر، حلقة من البرنامج الساخر، اللّص الذي أمسكوه في شقة أم ميرفت منذ أسبوع، وسط انقطاع الكهرباء، لكنه، لخفته، استطاع الإفلات منهم.

يتأمل النافذة مرة أخرى، زوجته تكاد تلقي بنفسها من ارتفاع، لكنّ الكثافة تمنعه من الحركة، وأين هي الحركة؟، لا مبالاة، ينتابه فزع من لامبالاته!.

يغلق عينيه، يفتحهما، لا شيء سوى الحضور الأسود، تهدأ أنفاسه، تلتقط أذنه حركة -غير معتادة- بالمطبخ، اللصّ الذي سرق أم ميرفت؟، أم فأر قادم من المنْوَر؟، الصوت يقترب؟، لا، نعم، بثقة، بخفة، يعلو، ثم يخفت. أدخل أنفاسه تحت السرير، كمّم قلبه كي يخفض من ضوضاءه، اتسعت حدقة عينه، طغت على المساحة البيضاء، حتى اختفت، النور غمر الشقة، عكس وجود اللّص الوهمي فوق رأسه، تشنجّت قدماه ، أصوات الفرحة ارتفعت من القهوة أسفل المنزل، والفقرة الإعلانية الثانية بدأت. علبة الفيرباميل سقطت على الأرض، تناثرت الأقراص، تمددت ذراعه على الكومودينو، هاديء، بائس، هزيل. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ShareThis