صفحات المدوّنة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، أبريل 19، 2013

مقابلة شخصية (الجزء الأوّل)ـ

ثمانية عشر دوراً، العمارة أربعة وعشرون، وليست كما ظننت، وصعدت، ومعي عامل التوصيل (الديليفري)، تركني في منتصف المسافة، مما أعطى لي فرصة، انفراد، كي أضع بعضاً من العطر، لأتخلّص من خليّة عَرَق، تكونّت سراً أسفل إبطيّ. اتساع أخضر من الذهول، أمام انفتاح باب المصعد. لا أبواب زجاجية، لا أضواء بيضاء مبهرة، لا مشّاية حمراء مفروشة بالطول، لا وجود لعلامة مميّزة تحتلّ أبواب الدور، ربما الدور الأعلى؟، لا، إنه السطح، فكّرت في طرق باب شقة على يمين المصعد، ثم استشعرت سخف الموقف، تخيّلت رجلاً بفانلة حمّلات، كان قد أخذ أجازة من العمل للانفراد بزوجته، والأولاد في المدرسة، يرمقني بنظرة احتقار، أو طالب خمسة ابتدائي، سمين، سخيف، أطال النوم، فغاب عن دوامه اليومي، يلطم وجهي بالباب، على أقل تقدير، سيسّب لأميّ الدين.

نَزَلْت. صوت المصعد أنبأ بسقوط مُحَقّق، هل ينتهي بي الحال في مصعد ليس به مرآة زجاج واحدة توّحد الله، صوتٌ قادم من اللاوجود –لزوم التديّن- "سبحان الذي سخّر لنا هذا .. "، لماذا لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن صوتِ آخر غير هذا، "إن الله جميل يحبّ الجمال"، وليس عِرسة مخنوقة تعاني مغصاً قولونياً فشلت المسكّنات في إلجامه. نهاية بائسة لشاب ثلاثيني لا يجد وظيفة.

وصلت. الدور الأرضي، جثة هامدة غادرت تابوتاً متحركاً للتوّ، انتظرت البوّاب حتى فرغ من ركعة صلاة الظهر الأخيرة، جلسة التشهّد طالت، يحّك رأسه، يغرس إصبعه في أذنه ويحفر، يسرح في المال والعيال، كيف سيتصرّف مع توبيخ صاحب العمارة اليومي، يتثاءب وكأنه سيبتلع الكون، سلّم، أطوى السجّادة.

-         "أؤمر يا بيه"
-         "شركة آي تِك"
-         "المدخل الجاي يا باشمهندس، عمارة 24 ب، هنا 24 أ، الدور التمنتاشر"، إضافة لزوم الجدعنة: "الدور كله بتاعهم".

ليتني لم أصل!.

لمبات بيضاء تراصت على جانبيّ الممر، في منتصف الأرضية مشّائة، حمراء، مفروشة بالطول، انتهت عند يافطة "أكريليك" عليها رمز الشركة، وأسفله شعارهم، "نبدع، نتطّور، نتفّوق". فتاة عشرينية العمر، بالإستقبال، أشارت عليّ بالإنتظار قليلاً. "قهوي زيادة لو سمحت"، هكذا قالوا لي، لا تطلب عصائر، أو نسكافيه، إمّا الشاي أو القهوة، والقهوة تظهرك أكثر احترافاً. تتفحصني النظرات التي ملأت الصالة، بذلات، وجرافاتات، أغلبها أسود اللون، وبعضها رمادّي، القمصان كلها بيضاء، يحملون سيرتهم الذاتية -كما أحمل- في غلاف، بلاستيك، شفّاف، خفيف. أحتسي القهوة، وأمشطهم بعينيّ سريعاً، ثم أراقب ساعة الحائط، لا يجلس أغلب المتقدّمين بالداخل أكثر من عشر دقائق، يبدو أن المتقدّم الأخير مختلف، مرّت عشرين دقيقة ولم يخرج بعد، أحاول السيطرة على مفاصلي التي لم تمّل من كثرة المقابلات، مازال لديها أملٌ في أن أسمع جملة أخرى غير "شكراً لحضورك يا باشمهندس، فرصة سعيدة جداً، لو حضرتك اتقبلت معانا هانبلّغك في خلال أسبوعين".

جاء دوري، متأخراً، بساعة، قالوا لي أيضاً؛ أنهم في المقابلات، يقيسون مدى تحمّلي بأن يتأخروا عن الميعاد المحدّد بساعة أو ساعتين. أذكر أنني مرة، كنت وحدي، متقدماً، ومع هذا، تركوني بالخارج لثلاث ساعات، حتى غفوت، وبدأت أريّل. أيقظني مدير الموارد البشرية، الذي من المفترض أن يجري معي المقابلة، بدوت سخيفاً جداً، لكنّه فاجأني، مخففاً من وطأ الحرج، "تعالى نصّلي المغرب، وبعديها نبتدي"، لم أكن قد صلّيت الظهر والعصر أصلاً، قلت لا يهمّ، سأصليهما لاحقاً. في المقابلة، اهتم بشاشة الكمبيوتر، كأنه وحده بالغرفة، عقد حاجبيه، تحّركت أصابعه بشكل سريع، ضرب على الزر بقوة، كأنه يلقي بقنبلة، غالباًـ في وجه مستقبل الرسالة (الإيميل)، ثم سألني –وهو يتطلّع للشاشة-:
-         "قولي بقى يا باشمهندس إيه هي نقطة ضعفك؟"
استشعرت جبلاً من السخف استقر فوق صدري، مللت تلك الأكلاشيهات، وبدلاً من أجيب بواحدة من الأكلاشيهات التي حفظتها "مش بشتغل كويس على الماكينتوش" ، "الشغل بيأثر على علاقاتي الإجتماعية"، قلت له:
-         " نقطة ضعف مالهاش علاقة بالشغل"
-         "إيه هي؟"
-         "بحب أنام"
-         فالتفت "أيه؟؟؟"
-         مردّداً ببطأ سينمائي، مططت فيه مدّ الألف: "بحب أنام".


تطلّع إلّي في سكون، ذهول، ثم اقتضاب.ـ

-         "طيب ، عامةً لو حضرتك معانا -إن شاء الله- هانكلمك في خلال أسبوعين".
بعدها، عرفت من صديق لي، يعمل بالشركة، أن الوظيفة أصلاً كانت قد تمّ شغرها قبل تقدّمي، لابن صديق ذلك المدير، لكن موظف الموارد البشرية المغّفل، لم يكن يعلم، استمر في إرسال الإعلانات الإلكترونية، فاصطادني. من المؤّكد أنه كان يرسل له رسالة توبيخ، ربما طرد، أثناء جلوسي معه.

(يُتبَع)



كتبها:

محمد عمر
19 إبريل 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ShareThis